التّلفـزيون وَالأطفَـال
* بقـلم : علاء الدين حســــن
جـاء في تقرير لمنظمة (( اليونسكو )) أنَّ الأطفال ، ما بين السادسة والسادسة عشرة ، يمضون من اثنتي عشرة ساعة إلى أربع وعشرين ساعة كل أسبوع أمام شاشات التلفزة ، أي بمعدّل ثلاث ساعات يومياً على الأقل .. من هنا يكون التلفزيون مادة يومية لبناء قواعد الحياة وأسس الأخلاق ، خاصة وأن الطفل منذ سن السادسة يكون ملمَّاً بهذا الجهاز السحري ، وبالتالي يكون لهذا الجهاز دور خطير في تقويم السلوك ، وبالوقت نفسه يكون مصدر قلق وترقُّب ، حتى لا يصل الأمر إلى درجة الإدمان ، لا سيما أنَّ الطفل سريع التأثر .
إنَّ التلفزيون – كما يُقال : سلاح ذو حدِّين ، فهو إيجابي إذا استُخدم وفق أسس عقلانية تربوية ، وهو سلبي إذا استُخدم وفق مقاييس أخرى بعيدة عن التنشئة السليمة .. وفي الأحوال جميعها ، فإن الطفل ينشأ وفق الأسس التي يتربى عليها .
إن التلفزيون سيكون له قيمة حقيقية في كل بيت يوجد فيه أطفال .. هكذا قال أحـد الكتَّاب عام 1949 .. وقال آخر : سيباشر التلفزيون إدارة أسلوب حياتكم ويغير عادات أطفالكم . والسؤال المطروح والمهم هنا هو : ما مدى أثر التلفزيون في سلوك الأطفال ؟ .. وهل يعمل التلفزيون على تحقيق النمو المتكامل للطفل ؟ .. وهل يؤدي دوره في التنشئة الاجتماعية ؟.
المربِّي الأول :
إنَّ اهتمام الطفـل بالتلفزيون يجعـله من أهم وسائل الاتصال تأثيراً في سلوكهم وتنشئتهم ، وفي هذا المجال تؤكد منظمة (( اليونسيف )) أن التلفزيون صار هو المربي الأول للطفل ، لا البيت ولا المدرسة أصبح لهما السيطرة التقليدية في مسالة التنشئة ، بعد أن حلَّ الضيف الجديد مكانهما .
ومن ميزات التلفزيون أنه يقدر على نقل الخبرة والمعرفة في سن مبكرة قبل غيره من الوسائل ، وبه كل مميزات الوسيلة السمعية البصرية ، وبهذا يمكن أن يقدِّم المعرفـة التي قد يصعب نقلها إلى ذهن الطفل عن طريق الكتاب أو الصورة أو الصوت ، إذا استعمل كل منها بمعزل عن الآخر . كما أن الطفل يرى على الشاشة الصغيرة مناظر خارجية أبعد من حدود البيت والبيئة المحيطة به ، وبالنسبة للأطفال ـ في مرحلة متقدمـة ـ يفتح أمامهم نافذة على العالم الواسع فيكتشفون أعماق المحيط ، ويستطلعون أركاناً بعيدة من الدنيا .
تأثيرات إيجابية :
يساعد التلفزيون على الإسراع في نمو عقلية الأطفال بما يعرضه من مجالات جديدة من المعرفة ومشكلات كثيرة عن عالم الكبار ؛ كما يفتح المجال لإثارة موضوعات حيوية تناقش فيما بعد على مختلف الأصعدة . كما يسهم التلفزيون في تقريب الطفل إلى البيئات البعيدة ، كالصحراء مثلاً ، ويفسر بعض الظواهر الطبيعية كالبراكين ، وينقل التراث الحضاري والمكتشفات الجديدة إلى الطفل .. كما يؤثر التلفزيون في مفهوم الأطفال عن الوظائف والأعمال ، ويثري معلوماتهم عنها ، ويساهم في تعليم المهارات الجسدية .
كما يعـد التلفزيون أداة مثيرة ومشجعة للنمو اللغوي ؛ حيث يقلل من الفروق في القـدرة اللغوية بين الأسر ذات المستويات المختلفة . كما ويجد معظم الأطفـال في برامج التلفزيون الراحـة والاسـترخاء والهرب من المشكلات الملحَّـة . وللتلفاز دور كبير في زيادة التسلية لدى الأطفال بما يبث من قصص وحكايات ومسابقات تحقق الطموح وتلبي الرغبات ، كما يساهم ببرامجه الدينية والثقافية في بناء الشخصية وإذكاء روح التضحية والفداء .
الآثار السلبية :
1- إن المسلسلات التلفزيونية العنيفة تولد العنف لدى الأطفال .. والواقع أن البرامج المقدَّمة للأطفال غالباً تطغى عليها مشاهد العنف .. وتكون المشكلة أكبر في مسلسلات العنف المبطن بالخيال ؛ حيث يجلس الأطفال بكامل قابليتهم لمشاهدة شلال من الصور المتلاحقة المتسمة بالمواقف الحاسمة والشخصيات المتصارعة ، ضمن هدير لا ينتهي من الموسيقى الضاجة التي تضيف إلى العنف عنفاً ، وإلى التغريب تغريبـا ، فلا يقوم الأولاد من كابوسها إلا وقد أُرهقت أعصابهم وانبهرت عيونهم وصمَّت آذانهم .
2- إن الطفل يتفاعل مع الإعلانات التلفزيونية ، وغالب هذه الإعلانات تقدَّم باللهجة العامية ، فتجعل من الأطفال مستهلكين بالفطرة . والإعلانات التجارية تزعج الكثيرين بما تنطوي عليه من الإغراء والإغواء ، ولنجاحها في إقناع الأطفال بشراء سلع .
3 – التلفـزيون يؤخر النوم ، وينقص الوقت المخصص للواجب المدرسي ، ويقتطع من وقت اللعب . واللعب _ كما هو معروف _ يفيد الطفل في بث روح الجمـاعة في روعـه ، وغرس معـنى الاجتماع والمشاركة الجماعية ، وهذا يمنحه الخبرة اللازمة للتعامل مع الآخرين ، والانخراط في مجتمعات جديدة دون عناء عندما يدخلها للمرة الأولى .
4 – إن أثـر التلفـزيون على البيئة – مـن حيث آثاره الجسدية والفيزيولوجية والنفسية – يكاد يكون من أخطر أنواع التلوث وأشدها إيلاماً وأكثرها تغلغلاً في النفوس. وقد أثبتت الدراسات أن بقاء الطفل أمام الشاشة ساعات طويلة يعرض صحته للخطر ويرهق جسده ويؤثر على قوة إبصاره .
5 – إن الطفـل يجلس أمـام التلفزيون في سـكون غريب لا تفاعل فيه ، مما دعـا بعض علماء النفس إلى وصف الأطفـال من هذا النوع بـ : موتى التلفزيون الأحيـاء .
6 – التلفزيون قد يصرف بعض الأطفال عن القيام بالنشاطات الاجتماعية المفيدة ، ويكرس لديهم روح الإتكالية .
7 – تحدث البرامج التلفزيونية آثاراً سلبية في نمو الطفل من الناحية الانفعالية ، لاسيما في تلك البرامج التي تكون معدة أساساً للكبار .
8 – بعض المواد الثقافيـة المستوردة قد تعمل على اهتزاز القيم والمفاهيم ، وقد تؤدي إلى تغيير أنماط الحياة والسـلوك ، وقد تتعارض مـع برامج التنمية الاجتماعيـة .
9 – الشاشة الصغيرة عندما تقـدم للطفل كل شـيء جاهـزاً ومرسوماً ومصوراً ، فإنها تمنعه من إعمال فكره وإطلاق خياله .. كما أن الإنتاج المقدَّم للناشئة على الشاشة يكون غالباً بشكل مشوه وبعيد عن الحقائق ، وتقديم – ما هبَّ ودبَّ – لا معنى له في كثير من الحالات . ولقد كان الطفل قديماً يتوسَّد ركبة جده أو جدته ويصغي باهتمام إلى حكاياتهما الجميلة التي كانت تنقله إلى عوالم مدهشـة ، فيرى بخياله قصورها ويرسم صوراً لها ولشخوصها بخياله كما يريد ، وكان هذا ينمي خياله ويساعده فيما بعد على الإبداع .
10 – اللغـة المسـتخدمة في برامج الأطفال غالبـاً تكون ضعيفـة المسـتوى ..
11 – الأطفـال الذين يشـاهدون التلفاز مدة ست ساعات في اليوم ، أو حتى ثلاث سـاعات ، هؤلاء الأطفال يحـرمون مما يمكن أن نعده : حياة الطفولة البريئـة .
هـذه هي بعض السـلبيات المتضمنة في برامج الأطفـال ، أحد أشهر الوسائل وأخطرها في المؤسسة التربوية والإعلامية . ورغم وجود هذه السلبيات فإنه يمكن تلافي الكثير منها بالانتقائية ومراعاة القدرات العقلية للناشئة ، وانتقاء مذيعين يمتازون بطلاقة ثقافية ولغوية عالية وقدرات متميزة . والأبحاث في هذا الميـدان تقتضي استمرار المتابعة. فإذا كانت التربية متينة وقوية وذات أسس سليمة تركز على عقيدة صالحة خالية من الشوائب ، فإن أثر القنوات سيكون أقـل تأثيرا .
مسؤولية الكبار :
وإذا كان الطفـل يتشرب العادات والقيم والتقاليد في مقتبل حياته من أسرته قبل أن يواجـه المجتمع الكبير ، فإن هذا يلقي عبئاً ثقيلاً على الأسرة ؛ حيث تصبح مسـئوليتها بالغـة : (( كلكم راعٍ وكلكم مسـؤول عن رعيتـه )) . ومن هنا فإن التنشئة الصحيحة في الأسرة ينبغي لها أن تهتم بجانب القـدوة قولاً وعمـلا ، وأصغر خلية اجتماعية تقوم بالمهمة الأولى للتربية هي الأسرة . والتربية عملية عامة لتكييف الفرد ؛ ليتلاءم مع تيار الحضارة ، وبهذا تكون التربية عملية خارجية يقوم بها المجتمع لتنشئة الأفراد حتى يسايروا المستوى الحضاري العام.
ويمكن لبرامج الأطفال أن تعاون الأسرة في تنشئة الأطفال اجتماعياً ؛ وذلك بمساعدة الأطفال على التعرف على المبادئ والقيم والعادات الاجتماعية التي يمتاز بها مجتمعهم ، وأن يراعى في تقديمها اتباع المواقف الدرامية البسيطة أو القوالب الترفيهية التي يسهل على الطفل استيعابها . وإنه لمن الأجدى أن نمنع الأطفال من مشـاهدة البرامج العنيفـة المثيرة، وأن ندعوهم إلى مشـاهدة البرامـج العلمية والاجتماعية والترفيهية التي تعكس في نفوسهم حب المعرفة ، وتساعدهم على السـير في دروب الخير والسلام .
والطفل الذي اعتاد أن ينصرف من المدرسة فينهي واجباته المدرسية ، ثم يجلس أمام التلفاز مع مشاركة الأهل في انتقاء البرامج الجيدة والمكان الجيد للمشاهدة ، هو أقدر على تحديد هدفه ، وهو في الوقت نفسه طفل مثابر . وبتفاعل الأبعاد الفيزيولوجية والاجتماعية والتاريخية تبدأ شخصية الطفل بالتشكل .. من هذا المنطلق يمكن أن نوظف ما يعرض منمشاهد في التلفزيون لنعطي أبناءنا معنى لما يشاهدونه ، بحيث نرسخ لديهم مفهوم الحق وأهمية التضحية .
وأوضحت دراسة علمية بأن ثمة ارتباطاً مباشراً بين ساعات المشاهدة التي يقضيها التلميذ أمام التلفزيون والدرجات التي يحققها ، فكلما زادت ساعات المشاهدة انخفضت الدرجات . من أجل هذا يترتب علينا أن لا نغفل عن تقديم التوعية والتوجيه اللازم لإكساب المواقف الإيجابية .
نصائح لا بدَّ منهـا :
- تحـديد يوم فـي الأسبوع لا نشـاهد فيه التلفزيون على الإطـلاق .
- عـدم تـرك الطفـل ينفـرد بالتلفـزيون ، وعـدم تنـاول الطعـام أمـام التلفـزيون .
- الابتعاد عن التلفزيون لتوليد الميل للقراءة ، مع الاقتناع التام بأن ما يتحقق بالقراءة أفضل بكثير مما يُشـاهَد في التلفزيون .
- يمكـن متابعة الـدروس المتلفزة بطـريقة منتظمة أو مرحليـة .
- لا بدَّ للآباء من الاطلاع على توقيت البرامج المفيدة ، وبذلك تتاح لهم فرصة توجيه أولادهم للمشاهدة ه.
- دور الأسرة أن تساعد الأبناء على اختيار ما يشاهدونه ، وعلى سلامة ما يختارونه .
- الولد الخاضع للعنـف التلفزيوني يجد العالم غير آمن وغاية في الخطورة .
- لا ينـبغي للولد مشـاهدة التلفزيون كلمـا أُصيب بالملـل .
مفـارقـات ..
يقول أحد البحاثة معلقاً على طول الوقت الذي يقضيه الأطفال أمام الشاشة الصغيرة: // عندما يحين وقت دخول الطفل إلى الحضانة يكون قد قضى فعلاً ساعات عديدة يتعلم فيها عن العالم ؛ هي أكثر مما سيقضي في قاعة المحاضرات بالكلية للحصول على الشهادة الجامعية أو حتى على الماجستير // . ويقول جان ديلياج – وهو أحد فلاسفة الإعلام العالميين : كان التلفزيون قالباً أحادي الاتجاه يتمثـل في جهاز بث واحد يستقبله آلاف المشاهدين ، أما اليوم فإن التلفزيون يعكـس هذا الوضـع ؛ حيث أن لـه آلاف المصادر عبر سـلك واحد يربطـه بـالعالم أجمـع .
خـاتمـة :
إنَّ الإعلام التلفزيوني يمتلك طاقات هائلة في ضوء تعدد الفضائيات إلى حد – ربما - لا حصر له ، وبحكم هذا الامتلاك ، يجب أن نحرص على تتبع ـ فقط ـ القنوات التي تهدف إلى بناء الإنسان فكرياً وعلمياً وسلوكياً ، وننأى ؛ بل ونشطب من أجهزتنا كل ما لا يمت إلى قيمنا ومبادئنا .
السبت يوليو 16, 2011 4:32 pm
